الفصل الثالث
من (محمد السوهاجي أكتوبر73)
يبدو أن محمداً قد مل الناس وتصرفاتهم ؛وإحساسه الشديد تجاه نظراتهم وأفعالهم تجاهه ؛فأضحي يغيب الأنظار مرة ثانية ؛فلا تراه في طريق ولا مسجد ولا سوق ؛
حتى أن البعض ظن أن غرق في البحر ؛أو أخذته صديقته وحبيبته الجنية إلي عالم الجن عندهم ؛ ولكن لكل إنسان خطى ليخطوها مادام فيه رمق الحياة ؛
لقد أمسك به مخبر وشرطة وسلمه إلي قسم الشرطة شاكاً في أمره ؛ واحتجز بقسم الشرطة عدة أيام وبعد عمل التحريات اللازمة ؛قررت الشرطة إرساله لقسم التعبئة التابع للقوات المسلحة لتجنيده ؛وقضاء فترة التجنيد مثل باقي زملاءه وأنداده فهو يعتبر متخلفاً عنهم ؛
وشاء القدر أن يلتحق محمداً بالقوات المسلحة ويجند ويكون جندياً ضمن كتيبة مشاه في الجيش ؛ونظراً للحالة التي دخل بها القوات المسلحة وصوته الخفيض الهامس وكلامه القليل ومداومة علي الصلاة وقرأته للقرآن الكريم ؛أطلق عليه زملاءه الشيخ محمد وكانوا يقدرونه ويجلونه كلهم دون استثناء أحداً منهم ؛حتى رؤساءه وقادته كانوا يعاملوه معاملة طيبة ولا يكلفونه بأي خدمات شاقة عليه ؛نظراً لطيبة وضعف عوده بينهم ؛وكانوا يقدمونه للصلاة بهم كلما حلت الصلاة ؛
وكأنه وجد عوضا عما ترك وفرجاً مما كان فيه ؛
أحس أن التجنيد أعاده للحياة ووجد فيه العون ليتخلص من عقده وما ألم به من يأس وحزن ؛فقد وجد من يتحدث معه ويشاركه الطعام ؛فصام عن الأجازات فلا يقدم علي أخذ أجازة مثل زملاءه ؛وحتى وإن وإن كانت أمه وإخوته في شوق له وهو في شوق لهم ؛يريد أن يتخلص من ماضيه وعناءه ؛فلا يقوم بأجازة حتى أن رؤساءه كانوا يجبرونه علي القيام بأجازة ؛فكان بدلاً من أن يذهب إلي أهله وبلدته يقضي الأجازة في القاهرة عاملاً في أحد المطاعم أو المحلات دون الذهاب لبلده وأهله ؛لكن الحنين للأهل والوطن لا ينقطع مهما حدث ؛ ودفعه شوقه وحنينه ليري أمه وأخوته ؛ فأخذ أجازة وتوجه إلي بلدته وهو يحاول أن يقتل الوحش الذي بداخله والذي يقف عائقاً أمام رجوعه ورؤيته لأمه وأبيه وإخوته ؛
وما أن وطئت قدماه الطريق التي تدخل به إلي بلده وبدأ الناس ينظرونه ويتعرفوا عليه ويسلموا عليه وينظرون وجهه وهم يهنئونه عي سلامة الوصول من السفر حتى عادة له الحياة ببشائر الفرج والتخلص من الماضي الكئيب؛
ارتمي محمد في حضن أمه وهو يقبل رأسها ويدها وأمه في ذهول وكأنها لم تصدق أن الذي أمامها هو محمد ابنها ؛وقبله أبوه بشئ من عطف وحنان وقربه إليه وهو يضمه إلي صدره حيناً ويرسله حيناً أخر ؛ وإخوته يدرون حوله ويزاحمون للالتصاق به ؛ صورة تبحث في النفس الحنين وترق القلب الغليظ ؛وتوقظ شهية المودة ؛ وتمسح ما علق في الأذهان من شوائب وفكر غير محمود ؛عاد محمد لتوه ؛لم يكن موجوداً من قبل هكذا الصورة تحكي وتجسد كل شئ ؛
قضي محمد أيامه الخمس يطوف بشوارع القرية نظيفاً أنيقاً ؛ يسلم علي كل من يقابله ؛كأنه يقول امسحوا ما علق بعقولكم عني ؛فأنا لم أعاشر جنية ,لم أك في يوماً من الأيام مجنون ؛بل عاقلاً أعي ما يدور وحولي ولكن الظروف والقدر ؛
هي أشد مني وأقوي وهي التي خلقت بداخلي وحشي الذي جعلني أعتزلكم في فترة عصيبة لا أعادها الله مرة ثانية ؛
للكاتب / سيد يوسف مرسي
*********